• 0
  • 0
  • 0
  • 0
رواة تم النشر منذ 3 سنوات في آخر

في الغياب والحضور - أحمد أبو خليل

مقال للكاتب أحمد أبو خليل، نُشر على مدونات الجزيرة.

- نص المقال:

(1)
عندما سافَرَتْ -لأول مرة بعد تلاقينا- خارج البلاد في زيارة قصيرة، أرسلتُ لها أقول: ليتني كنت موجودا معكِ، ردت وقالت: ليس الوجود بالجسد فقط! بعد شهور كانت لوحة جميلة بالخط العربي المغربي تتوسط بيتنا أعلى الأريكة البيضاء مكتوب عليها: ليس الوجود بالجسد فقط.

(2)
روح وجسد، أحدهما يحبسك والآخر يُطلقك، أولهما لا يعرف الحدود، وثانيهما لا يُعرّفُ إلا بالحدود من جميع جهاته، قد يجتمعان في مكان وزمان واحد فيكون الإنسان حاضرا وموجودا بكليته، وقد يفرق المكان بينهما كما أشهدنا الداخل الذي وقف للنخلة يشكوها: إن جسمي كما علمت بأرض.. وفؤادي ومالكيه بأرض، أو يفرق بينهما الزمان كشاعرنا تميمٍ عندما يحن إلى من لم يلقهم أبدا، صلى الله على حبيب القلوب.

وليس على الدوام ملامُ أمر الزمان والمكان في التفريق بين الصنوان -الجسد والروح- فنعم، يكونان أحيانا أسوارا تحيط بالجسد وتمنعه من أن يحلق بالروح حيث تهوى وتهيم، ولكن كما ذاك فإنهما يكونان جسورا تنسكب فيها الروح من إناء الجسد وتجري لا يصدنها شىء، فتكون تحديا لزمان يسلبك أو مكان يحسبك.

(3)
عندما وقفت لأودع أفضل شباب قابلتهم في حياتي بعد أن قضيت معهم عشرين يوما ونيف متشاركين في كل شيء، عندما بدأوا يلملمون حقائبهم وصورهم المبعثرة في عقلي، في ذلك اليوم الذي وقفت فيه ألمح رحيل الشمس خارج الفندق الكبير وسط العاصمة، نويت ألا أستسلم للمكان الذي بدأ يشيد قلاعه، أو للزمان الذي سيطوى كل هؤلاء يوما ما.

بعد شهر واحد أدركت أننى أضعف مما تصورت، هؤلاء الرجال الذين تمنيت أن أبقي عليهم وأنتصر بهم على صروف الدهر، وقعوا وقوعا حرا في غياهب البعد، وإن كانوا حضورا إلى اليوم في ركن سحيق من النفس، هنا، حيث تتحصن بعض الذكريات في نقطة لا يمسها سوء.

(4)
ما الأشد على الإنسان، أن يكون أحبابه حاضرين معهم بجثامينهم وأرواحهم شريدة بعيدة، أم يكونوا محلقين معهم بأفئدتهم وأجسادهم مقضى عليها بالنأى والتفرق، أيهما يُحتمل على أمل أن يعود الثاني، نكون بالجوار ونصبر على شرود الروح علها تفيء يوما، أم أن نكون في القلوب عل حوادث الدهر ترق لنا يوما فتسمح باللقيا.

لو قيل لأمٍ أنه سيحال بينها وبين ولدها وسيظل قلبه حاضرا معها، ولو قيل لحبيبة أن قلب حبيبها سيتحول ويبقى بجسده جوارها، الحالان مكروهان، مع اختلاف المواقع، فالأم ستحب أن ترى ابنها كل يوم وإن لم يكن يراها بقلبه، والحبيبة ستحب أن يبقى قلب حبيبها مغلقا عليها وإن فتحت عينها ولم تره أمامها.

ولكن ماذا لو لم تكن هذه الخيارات اضطرارية حتى، هل يختار الناس حينا أن يغيبون عن أعين أحبتهم، يتوارون من نظرة عتاب منهم، أو يخافون من انكسارة عجز أمامهم، فيصبحون في عداد قول شاعرنا: وما كل نفس حين تلقى حبيبها تسر.. ولا كل الغياب يضيرها؟

(5)
"ما الفرق بين الخيال والواقع، إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن، ويترك آثاره في النفس والحياة؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة، وكلاهما طيف عابر، يلقى ظله على النفس ثم يختفي منه عالم الحس بعد لحظات.." هكذا نطق ذلك العاشق بهذا الكلام الغريب، بعد أن لقى حبيبته تنزل من عربة الترام ومعها طفلها الذي سمته بنفس الاسم الذي اتفقا عليه قبل عامين، قبل أن ينفصلا، سلم عليها وحمل الطفل وقبله ثم ودعها وغابت بجسدها كما كانت طوال عامين، هكذا يضرب سيد قطب الغياب والحضور والحلم والحقيقة في مقتل.

(6)
لأن الحياة مقدر عليها غياب الجسوم، فكان حضور القلوب فسحة الخلود، الخلود الذي سيهزم الزمان والمكان يوما ما لتكون مع من أحببت قدر ما أحببت.

أما ونحن ما زلنا هنا، فإنني عندما أفكر في ابنتي التي لم تتم سوى عام أنها بعد عشرين سنة ربما ستفارقني، أرتهب، وعندما أفكر في صديقي الذي لازمته خمس سنوات في سنوات الصبى وربما مر على خمس سنوات لم أره أو أسمع صوته، عن أصدقائى الممنوعين من العبور إلى الوطن، أو الآخرين المغيبين في الأقبية وغلف الأسوار، عن كل إنسان لقيته ساعة وأحببت لو امتدت في تضاعيف الزمن، لا ليس امتدادا أفقيا، ولكن امتدادا رأسيا متوازيا، لو يفعلها الزمن ويسمح لنا بمسارات متوازية حتى نعب من الحضور لما طلبنا من الحياة فوق ذلك.

(7)
قالت لي، لا تغب ثانية، لم يمض إلا قليلا على فراق موقوت، لكنها قالت، أما أنا فكنت أكتم وأقول ليتها لا تقول. كنت قبل لقائها عندما أسافر بجسدى أغلق على قلبى أقفاله، فلا يختبر شيئا من دروب الحياة قبل أن تشاركه هي تلك الدروب أولا، أما اليوم فإنى لا أرى شيئا إلا بعينيها هي، ولا أسمع همسا إلا بسمعها هي، ولا أشعر بديب حزن ولا فرح إلا كأنني هي، أو هي أنا.

رغم أن الوجود ليس بالجسد فقط، إلا أنني كإنسان ضعيف لم يعد يحتمل سوى اجتماع الحضورين، وغياب كل غياب لم يعد يجدي معه أي تعلل، ويكأنني أطلب خلودا كالمتنبي وأريد من زمني ذا أن يبلغني، ما ليس يبلغه من نفسي الزمن!
-----------------------------------
Subscribe: http://bit.ly/RowaahYT
-----------------------------------
تحميل تطبيق رواة : http://onelink.to/4hckpn
-----------------------------------
Follow on:
Website: http://rowaah.net/
Facebook: https://www.facebook.com/Rowaah/
Twitter: https://twitter.com/Rwoaah?s=09
Soundcloud: https://soundcloud.com/rowaah
Instagram: https://www.instagram.com/rowaah_/?igshid=kgi59b0d92eh
-----------------------------------
#رُواة
#Rowaah
#أحمد_أبوخليل

مميزات اضافية
0

:: / ::